من قلد عالما لقي ربه سالما///"ألقها في رقبة عالم واخرج سالم"

"ألقها في رقبة عالم واخرج سالم"

هذه مقولة (بهذا اللفظ أو بما يُشبهه) أظنها شائعة في غالب بلاد العرب إن لم تكن فيها جميعا، وربما في جميع بلاد المسلمين. وقد ينظر إليها البعض من جانب إيجابي على أنها تدل على رجوع الناس إلى أهل الفقه في ما يحدث لهم من أمور الدين. ويمكن النظر إليها من جانب سلبي، وهو أنها شعار التهرُّب من المسؤولية، حيث يُسيءُ الشخص ثم يبحث عن "شيخ" يسوِّغ له سيِّئته.

وأتساءل أحيانا عند المرور ببعض المسائل الفقهية: هل يسهم أهل الفقه في غرس أو تكريس بعض العادات السيئة في نفوس الناس؟ وذلك إما بتجاوز وظيفتهم، أو من خلال الطريقة التي تُعرض بها بعض المسائل الفقهية. وسيكون الحديث هنا عما قد يُعدّ تجاوزا من أهل الفقه لوظيفتهم.

ففي تصوري –والله أعلم- أن الأصل في وظيفة الفقيه أنه يفتي الناس في أمور دينهم حسب ما يوصله إليه فهمه واجتهاده إن كان مجتهدا، أو حسب ما ينقله عن المجتهدين وما يتخيره من أقوالهم إن لم يكن مجتهدا. وليس من عمل الفقيه أن يُصدر أحكاما بوصف القضاء، إلا إذا تعين للقضاء فعندئذ يحكم بين الناس، ويكون حكمه على أفعالهم التي ترفع إليه حسب ما تقتضيه أحكام القضاء.

كما أنه ليس من عمل الفقيه أن يبحث للناس عن "مخارج" أو "حيل" للخروج مما يوقعهم فيه سوءُ خُلقهم وجرأتهم على أحكام الشريعة؛ لأن ذلك يُعدّ بمثابة تثبيتٍ لسُوء الخلق والجرأة على أحكام الشريعة وتعميقهما في نفوس الناس. وفكرة البحث عن "المخارج" في ذاتها مجرد تعبير مُهذَّب لفكرة التهرّب من المسؤولية؛ فالشخص يرتكب جرما ثم يتهرّب من تحمّل مسؤوليته عن ذلك الجرم بالبحث عن مخرج. فإذا كان الجرم من أمور الدنيا بحث عن واسطة متنفذة لتخليصه من العقوبة، أو تزوير وثائق، أو غيرها، وإذا كان من أمور الدين بحث عن "شيخ" يعطيه مخرجا.

والأصل أن من مسؤولية الفقيه أن يُعلِّم الناس الشعور بالمسؤولية عن أفعالهم، ويعينهم على تنمية الوازع الديني. ومن ذلك أن يترك المستفتي يحكم على أفعاله بنفسه بعد أن يبيّن له الضوابط الشرعية للحكم على تلك الأفعال.

قد يقول قائل: إن تعليم الناس "المخارج الشرعية!!" من باب دفعهم عن الوقوع في المنهيات صراحا. فيقال له:
أولا: هذا مجرد ظن، وما يدريك لعله يكون العكس، فيكون الامتناع عن تعليمهم الحيل سببا في تأديبهم والتزامهم أحكام الشرع.
ثانيا: إن ما تعلمهم من "مخارج" لا يقل سوءا عن تركهم للتصرف بأنفسهم؛ لأن فيه تعليمهم العادات السيئة، مثل التهرب من المسؤولية والتحايل على أحكام الشرع، وتعويدهم على ذلك. وقد ينتج عن ذلك تساهل بعض الناس في تعدي حدود الله تعالى في الطلاق، ظنا منهم أنهم سيجدون من يجد له "مخرجا" للتحليل، فيرجع أحدهم زوجته متى شاء. ويتساهل بعضهم في التحايل على الربا بعقود صورية؛ لأنه يظن أن هناك من يجد له صيغة لتصحيح تلك العقود. وغير ذلك من الأمثلة.
ثالثا: لقد جعل لهم الشارع مخرجا، فهل ما نعلِّمه لهم نحن أفضل مما وضعه الشارع؟
ولماذا يبحث الفقيه عن "مخارج" لأولئك الناس، وقد نص الشارع على المخرج مما وقعوا فيه؟ ألا يكون هذا تجاوزا من أهل الفقه للمخرج الذي وضعه الشارع، وتجاوزا منهم لوظيفتهم؟ فمن حلف يمينا ولم يقدر على البر بها قد وضع له الشارع مخرجا، وهو الكفارة، حتى يتعلم كيف يكون مسؤولا عن كلامه ولا يتخذ الله عز وجل عرضة لأيمانه. ومن طلق زوجته ثلاث مرات حتى بانت منه قد وضع له الشارع مخرجا، وهو أن يتزوج امرأة أخرى، ويتعلم في المستقبل مسؤوليات المعاشرة الزوجية. ومن قذف شخصا قد وضع له الشارع مخرجا، وهو ثمانين جلدة في ظهره حتى يتعلم مراقبة لسانه، وهكذا.

ولا يقولن قائل إن من مقاصد الشارع التيسير والسماحة والتجاوز عن المسيء وحفظ الأسرة وغير ذلك، فلماذا لا نبحث للناس عن "مخارج" تيسِّر عليهم حياتهم؟ لأن الشارع قاصد في هذه الحالات إلى معاقبة المسيء لتأديبه وتعليمه المسؤولية والسلوك الحسن، وإلا لما قيّد الشارع طلاقه بمرتين "فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، ولأطلق له لسانه يُقْسم متى شاء بما شاء، ويتّهم من شاء بما شاء."ألقها في رقبة عالم واخرج سالم"

نقله لكم محبكم سالم أبوياسر التيميموني